المدينة الرقمية لكبار السن في الدول العربية

أحكام المسنين في الصيام (الجزء الثالث)

أحكام المسنين في الصيام (الجزء الثالث)

 

المبحث الثالث : حكم الفدية للمسن المأذون له بالإفطار حال الإقامة إذا أراد السفر :

إذا سافر المسن الذي يجوز له الفطر وتجب عليه الفدية في الحضر، هل تسقط عنه الفدية بناء على أن الصوم غير واجب عليه في السفر، والفدية بدل عن الصوم الواجب، أم يجب عليه إخراج الفدية كما لو كان مقيماً؟

لأهل العلم القائلين بوجوب الفدية على المسن المفطر في هذه المسألة قولان:

القول الأول: لا يُسْقِطُ السفرُ عن المسن الفديةَ، بل تجب عليه، وهذا مفهوم قول الحنفية في حالة رجوعه من سفره، وذلك لأنهم صرحوا بأن الشيخ الكبير إذا سافر ومات قبل أن يرجع من السفر فلا يجب عليه الإيصاء بالفدية، ومفهوم هذا أنه إذا رجع من السفر حياً تجب عليه الفدية عندهم.

وهو قياس مذهب الشافعية على الأصح في قولهم في كيفية وجوب الفدية على المسن هل تجب ابتداء أو بدلاً عن الصوم، فالأصح عندهم أنها تجب ابتداء لأن المسن العاجز مخاطب بالفدية وغير مخاطب بالصيام، وبناء عليه فلا تسقط الفدية بالسفر، لأنها ليست بدلاً عن الصوم لتسقط بعدم وجوب الصوم بالسفر.

واختار هذا القول العلامة محمد بن العثيمين -رحمه الله تعالى- من المعاصرين.

القول الثاني: سقوط الفدية بالسفر، وإلى هذا ذهب الحنابلة.

الأدلـة:

لم يذكر أصحاب القول الأول دليلاً لهم حسب ما اطلعت عليه ولكن استدل له
العلامة ابن عثيمين
-رحمه الله تعالى- بقوله: «وإنما الواجب عليه الفدية، فالفدية لا فرق فيها بين السفر والحضر».

واستدل أصحاب القول الثاني القائلون بسقوطها بالسفر بدليلين من المعقول:

1-    أن المسن قد أفطر في حال السفر بعذر معتاد فلا إطعام عليه، ولا قضاء عليه أيضاً لأنه عاجز عنه.

       ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال بأنه منقوض بما لو عجز المسن غير المسافر عن دفع الفدية في وقت وجوبها مؤقتاً، فلا تسقط الفدية عنه لذلك عند الحنابلة القائلين بهذا القول، وهو عجز بعذر معتاد، فكذا هنا لا تسقط عنه الفدية ولو أفطر بعذر معتاد.

2-    أن الفدية بدل عن الصوم، والصوم يسقط بالسفر، فلا فدية عليه لسقوط المبدل.

       ونوقش هذا الاستدلال بعدم التسليم بأن الواجب عن المسن في هذه الحالة الصوم، والفدية بدل عنها، بل الواجب في حقه الفدية ولا فرق في الفدية بين السفر والحضر.

        ويمكن أن يناقش أيضاً بعدم التسليم أن الصوم يسقط بالسفر مطلقاً، بل يجب القضاء، فكما لا يسقط الصوم بالسفر فكذا بدله، فيجب دفعها إذا قدر عليها بعد السفر.

الترجيح:

ولعل الراجح – والله تعالى أعلم – هو القول الأول، وهو عدم سقوط الفدية بالسفر، بل يجب إخراجها سواء قدر على إخراجها في السفر أو بعده، لما يلي:

1)    لقوة دليل هذا القول وسلامته من المناقشة.

2)    لضعف دليل القول المخالف ورود المناقشة المؤثرة عليه.

3)    أن الفدية حق واجب على المسن العاجز عن الصوم، فلا تسقط عنه بسقوط غيرها، وهو الصوم في حال السفر سواء اعتبرناه مخاطباً ابتداءً بالفدية لعجزه عن الصيام أم لكون الفدية بدلاً عن الصيام.

4)    أن الأصل في الحقوق الواجبة أنها لا تسقط بالعجز المؤقت عنها كالديون والحقوق المالية الأخرى.

 

المبحث الرابع : حكم نذر المسن بالصيام  وهو غير قادر عليه وكفارته :

إذا نذر المسن العاجز عن الصوم، أو الذي يشق عليه، بأن يصوم أياماً أو شهراً أو نحو ذلك، فهل ينعقد نذره ويلزمه؟ وإذا قيل بانعقاد نذره فهل له أن يفدي بدلاً عن الصوم الذي عجز عنه أو شق عليه مشقة شديدة؟ وهل عليه كفارة مع الفدية إذا قيل بأجزاء الفدية عن الصوم؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال:

القول الأول: ينعقد نذره وتجب عليه كفارة اليمين، وإلى هذا ذهب الحنابلة في رواية.

القول الثاني: أنه ينعقد نذره، وتجب عليه فدية إفطار المسن، وإلى هذا ذهب الحنفية، وهو وجه عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة.

القول الثالث: ينعقد نذره، وتجب عليه كفارة اليمين وفدية إفطار المسن، وإلى هذا ذهب الحنابلة.

القول الرابع : لا ينعقد نذره أصلاً ولا يلزمه شيء، وإلى هذا ذهب الشافعية في أصح الوجهين عندهم، وهو قول عند الحنابلة.

وهو قريب من قول الإمام مالك الذي يرى أنه لا يلزمه غير ما يستطيع إتيانه مما نذر، وإذا لم يستطع فليتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، ويستغفره سبحانه وتعالى.

ولا تلزمه الفدية على قول المالكية، لأنهم لا يرون وجوب الفدية عن الصوم الواجب، فمن باب أولى لا يرون وجوبها عن الصوم المنذور؛ لأن المنذور ليس بأقوى من الفرض الأصلي عندهم.

الأدلـة:

واستدل أصحاب القول الأول بأدلة من السنة:

1-    حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  قال: ” … ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين”.

2-    حديث عقبة بن عامر – رضي الله عنه – قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن استفتي لها رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  فاستفتيته فقال: “لتمش ولتركب”.

وفي رواية أبي داود : «أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها النبي – صلى الله عليه وسلم –   أن تركب وتهدي هدياً» وعند أبي داود أيضاً أن رجلاً جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم –   فقال: يا رسول الله، إن أختي نذرت –يعني أن تحج ماشيه- فقال – صلى الله عليه وسلم –   “إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً، فلتحج راكبة ولتكفر عن يمينها”.

وجه الاستدلال من الحديثين أن النبي – صلى الله عليه وسلم –   أمر من لا يستطيع الوفاء بنذره بكفارة اليمين، وظاهرهما يدل على أنه لا شيء عليه غير الكفارة، ويؤكد أن كفارة النذر كفارة يمين ما ورد في مسلم أن النبي قال – صلى الله عليه وسلم –  : “كفارة النذر كفارة يمين، والمسن في هذه الحالة غير قادر على الوفاء بنذره وهو الصوم، فتجب عليه كفارة اليمين، وحديث ابن عباس على فرض عدم صحة رفعه وقد صح موقوفاً له حكم الرفع إذ إنه ليس للرأي فيه مجال والله أعلم.

 

واستدل أصحاب القول الثاني القائلون بانعقاد نذره ووجوب الفدية عليه بأدلة من المعقول:

1-    أن المسن مكلف بالصوم المفروض شرعاً، ووجبت الفدية عليه بدلاً عن الصوم لعجزه عنه، فلما لم يمنع عجزه وجوب الصوم عليه شرعاً، فلا يمنع عجزه وجوب النذر عليه، ولما عجز عن الصوم فينتقل حال النذر إلى الفدية كالصوم الواجب شرعاً.

2-    أن صوم النذر في هذه الحالة قد وجد سبب وجوبه عيناً على المسن، فإذا عجز عنه لزمه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً كصيام رمضان.

 ونوقش هذا الاستدلال بأنه قياس على صيام رمضان، ولا يصح قياسه عليه لما بينهما من الفارق ويظهر ذلك في أمرين:

 الأول: أن صيام رمضان يُطعم عنه عند العجز إذا دام العجز حتى الممات، فكذلك في الحياة، والنذر بخلافه، وأن صوم رمضان آكد، بدليل وجوب الكفارة بالجماع فيه، وعظم إثم من أفطر بغير عذر.

 الثاني: أن قياس المنذور على المنذور أولى من قياسه على المفروض، إذ لا تجب الفدية على من عجز عن نذر غير الصيام، فكذا إذا عجز عن نذر الصيام.

3-    أن المطلق من كلام الآدميين يحمل على المعهود شرعاً، ولو عجز عن الصوم المشروع وهو رمضان  أطعم عن كل يوم مسكيناً، فكذلك إذا عجز عن الصوم المنذور.

       ونوقش هذا الاستدلال بعدم التسليم بأن كلام المسن حال نذره بالصوم كلام مطلق، بل هو منذور معين.

4-    أن المسن في هذه الحالة عاجز عن الوفاء بنذر الصوم، حقيقة، فيلزمه الوفاء تقديراً ببدله، فيصير كأنه صام.

ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأن الواجب على المسن ما ورد في السنة عند العجز عن الاتيان بالنذر وهو كفارة اليمين.

واستدل أصحاب القول الثالث القائلون بوجوب كفارة اليمين والفدية على المسن بأدلة من السنة والمعقول:

أ – من السنة:

ما سبق ذكره في أدلة القول الأول، وقالوا إن النبي – صلى الله عليه وسلم –  في الأحاديث المذكورة أمر من لا يستطيع الوفاء بنذره بكفارة اليمين والمسن في هذه الحالة غير قادر على الوفاء بنذره وهو الصوم، فتجب عليه كفارة اليمين، وتجب عليه الفدية لعدم إتيانه بالمنذور بعينه.

ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال بأن هذه الأحاديث لم يرد فيها إلا كفارة اليمين، وليس فيها الأمر بالاتيان بالفدية مع الكفارة، فلا تجب الفدية.

ب- من المعقول:

1-    تجب على المسن الكفارة بسبب عدم الوفاء بالنذر، وتجب عليه الفدية بسبب عجزه عن واجب الصوم، فاختلف السببان واجتمعا فلم يسقط واحد منهما.

       ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال بأنه يؤدي إلى الجمع بين بدلين هما الكفارة والفدية باعتبار أنهما بدلان عن الصوم أو أنه يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل باعتبار أن المسن غير مخاطب أصلاً بالصيام بل مخاطب بالفدية فإذا أوجبنا عليه الكفارة فكأننا جمعنا بين البدل والمبدل وعلى كلتا الحالتين لا يصح ولا يظهر أن في الشريعة نظير لمثل هذه الصورة وليس هناك نص شرعي يوجب الجمع بين الكفارة والفدية ليصار إليه والله أعلم.

2-    واستدلوا بما استدل به أصحاب القول الثاني من قياس الصوم المنذور على الصوم الواجب في وجوب الفدية.

ويمكن أن يناقش بأن هذا القياس غير مسلم به لوجود الفارق بين صوم الفرض وصوم النذر، وعلى فرض التسليم فإنه لا يقتضي الجمع بين الكفارة والفدية، وهومع ذلك لا يعتد به؛ لأنه قياس في مقابل النص.

واستدل أصحاب القول الرابع القائلون بعدم انعقاد نذره أصلاً بأدلة من المعقول:

1-    أن المسن العاجز عن الصوم ليس مخاطباً به أصلاً، إذ هو مخاطب بالفدية، فلو نذر صوماً لا ينعقد نذره، لأنه ليس مخاطباً به.

2-    أن نذر المسن بالصوم في هذه الحالة من باب التكليف بما لا يطيق، وذلك غير جائز شرعاً، فلا ينعقد نذره، وبناء عليه فلا يجب عليه شيء.

       ويمكن أن يناقش، بأنه وإن كان المسن عاجزاً عن الصوم إلا أنه غير عاجز عن كفارة اليمين، وعليه فهو ليس بمكلفٍ بما لا يطيق، فيجب عليه الإتيان بما كلف به.

الترجيح:

ولعل الراجح -والله تعالى أعلم- هو القول الأول القائل بانعقاد نذر المسن ووجوبه كفارة يمين لما يلي:

1-    لقوة أدلة هذا القول؛ حيث استدلوا بالسنة الثابتة، وهي قوله – صلى الله عليه وسلم –  : “كفارة النذر كفارة اليمين”، وهذا هو عام في جميع النذور، ويؤيده ما روي مرفوعاً، وصح موقوفاً عن ابن عباس – رضي الله عنه -:”ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين”، ولم يرد فيها أداء الفدية مع الكفارة فيجب العمل بهذه السنة وغيرها مما يؤيدها.

2-    لضعف استدلال الأقوال المخالفة، حيث إنها أدلة قياسية في مقابلة النص، وما تمسك به أصحاب القول الثالث بالأحاديث نوقش من ناحية الدلالة.

 

المبحث الخامس : كفارة المسن عند ظهاره :

بما أن المسن مظنة العجز عن الصيام، فناسب أن يبحث حكم عجزه عن الصيام في كفارة الظهار.

إذا ظاهر المسن  العاجز عن الصيام زوجته وأراد أن يعود، فقد أجمع أهل العلم أنه يجب عليه عتق رقبة، فإن لم يجد فعليه أن يصوم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع الصيام لكبر سنه فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً.

قال ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: «أجمع أهل العلم على أن المظاهر إذا لم يجد الرقبة، ولم يستطع الصيام، أن فرضه إطعام ستين مسكيناً، على ما أمر الله تعالى في كتابه، وجاء في سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم –  ، سواء عجز عن الصيام لكبر أو مرض يخاف بالصوم تباطؤه أو الزيادة فيه…».

واستدل أهل العلم على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة:

أ- من الكتاب:

قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{3} فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً…}.

وجه الاستدلال: أن الله تعالى جعل كفارة الظهار تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطيع فإطعام ستين مسكيناً، والمسن إذا كان غير قادر على تحرير الرقبة والصيام ففرضه الإطعام بنص الآية.

ب- من السنة:

حديث أوس بن الصامت – رضي الله عنه – أنه لما ظاهر من زوجته أمره رسول الله – صلى الله عليه وسلم –   بأن يعتق رقبة، فقالت زوجته: لا يجد، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  “فيصوم شهرين متتابعين، قالت: يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً…”.

وجه الاستدلال: الحديث واضح الدلالة وهو نص في المسألة فالنبي – صلى الله عليه وسلم –   أخبر أن فرض غير المستطيع على الصيام هو الإطعام وعدم استطاعة أوس بن الصامت t كان لكبر سنه.

 

احكام صوم المسنين (الجزء الاول ) 

احكام صوم المسنين (الجزء الثانى) 

 

المصدر : الملتقى الفقهى

مشاركة

بيانات الاتصال

اتصل بنا

97333521334+

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لـ المدينة الرقمية لكبار السن في الدول العربية© 2022