المدينة الرقمية لكبار السن في الدول العربية

الوحدة تتفشّى بين المسنّين في الغرب … لكنها ليست حكراَ عليهم!!!

دفع البكاء والصراخ الصادران من شقة جول وميشيل في العاصمة الإيطالية روما، بجيران هذين العجوزين إلى استدعاء الشرطة. لكن الدورية التي هرعت إلى المكان لم تجد شيئاً مريباً. لا عراك بين الرجل البالغ 94 سنة وشريكة حياته البالغة 84 سنة، ولا حتى محاولة من لص لدخول الشقة والسرقة منها. لماذا الصراخ والبكاء إذن؟ تبيّن لرجال الشرطة أن العجوزين، بحسب أقوالهما، يعيشان وحيدين، وقد مرت شهور بلا زيارة أو اتصال من أقاربهما للاطمئنان عن أحوالهما.

الوحدة تتفشّى بين المسنّين في الغرب … لكنها ليست حكراَ عليهم

وأضاف العجوزان أن الذي حصل واستدعى البكاء والصراخ أن جول تأثرت بأخبار في التلفزيون عن أعمال عنف وقتل تسود العالم وأخذت تبكي، فتضامن معها ميشيل. وهكذا تحوّلت نشرة الأخبار إلى مناسبة للتنفيس عما في قلبيهما، ليس فقط في شأن أحوال العالم المزرية بل أيضاً في شأن أحوالهما المزرية بدورها، كما يبدو أنهما يعتقدان.

انتهت قضية العجوزين «حبياً»، فقد طها لهما أفراد الدورية الأربعة، أندريا وأليساندرو وإرنستو وميركو، وجبة باستا (من أنواع المعكرونة) بجبنة البارميزان، ونشرا قصتهما على صفحة الشرطة في «فايسبوك»، وصاروا أصدقاء معهما.

كسب العجوزان، كما يبدو، شهرة، لكن الأهم أنهما كسبا أيضاً صداقة تساعدهما في درء الوحدة التي يعانيان منها في أواخر العمر. غير أن بيان الشرطة الإيطالية عن الحادثة سلّط الضوء على ما يعانيه العجزة في الغرب عموماً من مشكلة الوحدة، في ظل انقطاع الاتصالات بينهم وبين أقاربهم وجيرانهم، فقد جاء في البيان: «الحياة ليست دائماً سهلة، خصوصاً عندما تفرغ المدينة ويذهب الجيران في عطلهم. أحياناً تذوب الوحدة في الدموع. أحياناً تكون كعاصفة صيف. تأتي فجأة وتأخذ في طريقها كل شيء (…). جول وميشيل يحبان أحدهما الآخر، لكن عندما تكون الوحدة عبئاً على القلب، يمكن أن يحصل أنهما يفقدان الأمل. يمكن، كما حصل في هذه المرة، أن يصرخا بملء صوتيهما بسبب فقدانهما الأمل، إلى أن يستدعي أحد ما، في نهاية المطاف، الشرطة».

أعادت قصة هذين العجوزين الإيطاليين التذكير بالمأساة التي يعانيها العجزة في بريطانيا، وهي مأساة غالباً ما تطفو على السطح في نهاية السنة حيث يقضي عجزة كثر عطلة عيد الميلاد بين أربعة جدران بعيداً من أقاربهم وجيرانهم. وتُشبه قصتهما إلى حدّ كبير قصة عجوزين بريطانيين كانا يشعران بوحدة قاتلة نهاية السنة الماضية، فاتصلا برقم الطوارئ 999 وتحدّثا مع عامل الاتصالات (ضابط شرطة) لمجرّد رغبتهما في التحدّث مع أحد ما. وقرر الادعاء العام عدم إحالتهما على المحاكمة، على رغم أن الاتصال برقم الطوارئ ممنوع منعاً باتاً إذا لم تكن هناك فعلاً حالة طارئة تستدعي الاستنجاد بالشرطة أو فرق إطفاء الحرائق. ولقي قرار الادعاء ترحيباً من وسائل الإعلام، التي اعتبرته صائباً كون «الوحدة حالة طوارئ وطنية»، بحسب ما كتب ستيفن بيرك في «الإندبندنت». وجادل الكاتب بـ «أننا كلنا في حاجة إلى بناء علاقات وصداقات والمحافظة عليها خلال سنوات العمر. ولكن عندما تفشل شبكة الأمان هذه، علينا كمجتمع أن نرد بطريقة مناسبة (…) بمن تتصل عندما تكون في أمسّ الحاجة إلى التحدّث مع أحد ما؟ في حالة عجوزي هذا الأسبوع، كان الرقم 999 هو الجواب. ردّ عليهما ضابط شرطة، وذهب إليهما من أجل دردشة واحتساء كوب شاي».

وفي رأي الكاتب أن «اختيار رقم الهاتف هذا، وفق ما يبدو لي، كان مناسباً. ففي بريطانيا تبلغ الوحدة مستويات متفشّية مخيفة. إن الوحدة هي مسألة صحة عامة تملك -بحسب الأبحاث- التأثير عينه على جسدك الذي يُحدثه تدخين 15 سيجارة في اليوم. إن الارتباط بين الوحدة والموت المبكر هو ارتباط كبير، كالارتباط بين الموت المبكر والبدانة، كما أن تأثيرات الوحدة تبيّن أنها توازي تأثيرات الإدمان على الكحول. ببساطة، هذه حالة طوارئ اجتماعية».

بالطبع، لا يجب أن يُعتبر دفاع الكاتب عن اتصال العجوزين برقم الطوارئ 999 حلاً مثالياً للعدد المتزايد من الناس الذي يشكون من الشعور بالوحدة والذي يكون التلفزيون في أحيان كثيرة وسيلتهم الوحيدة على مدى أسابيع للتواصل مع ما يجري في العالم من حولهم.

وتزايد مشكلة وحدة العجزة في بريطانيا مرتبط بحقيقة أن الناس باتت تعيش الآن أطول لكنها باتت أيضاً تعاني من الوحدة في سبعينات العمر وثمانيناته وتسعيناته. كما أن المشكلة مرتبطة بتفكّك العائلة حيث لا يعيش الأهل العجزة في مكان قريب من مكان سكن أفراد عائلتهم. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تُشعر كثيرين من البالغين في منتصف العمر بأنها تعزلهم أكثر مما تربطهم. وما يزيد الطين بلة في بريطانيا أن الحكومة اضطرت بسبب سياسات التقشّف إلى إغلاق خدمات اجتماعية مثل النوادي المجانية التي يجتمع فيها كبار السن ويتناولون طعام الغداء ويتعارفون ويتواصلون.

لكن التقدّم في السن لا يتساوى بالضرورة مع الوحدة. ففي رأي الكاتب بيرك «الناس لا تصير فجأة وحيدة في سن 65، 70 أو أكبر. علينا جميعاً أن نبني علاقات وصداقات ونحافظ عليها خلال سنوات العمر. ولكن هناك أشياء تحصل عندما يتقاعد الناس وتجعل من الوحدة أمراً أكثر احتمالاً، فالتخلّي عن العمل يمكن أن يعني خسارة اتصالات اجتماعية كثيرة، كما يعني خسارة الهدف (من الحياة) والهوية. والانتقال للعيش في منطقة ساحلية جميلة يمكن أن يصعّب بناء صداقات جديدة، لا سيما في فصول الشتاء المظلمة والباردة والهادئة. كما أن الإصابة بمرض مزمن أو إعاقة يمكن أن يجعل من التنقّل من مكان إلى آخر أكثر صعوبة».

وفي هذا الإطار، جاءت قصة العجوزين الإيطاليين لتثير تساؤلات حول مدى ارتباط الوحدة بالتقدّم في السن، فقد علّقت الكاتبة غابي هينسليف في صحيفة «الغارديان» قائلة: «أتظنون أن الوحدة هي أن يعاني أشخاص عازبون وهم يبحثون عن الحب؟ أعيدوا التفكير»، مضيفة: «أن قصة العجوزين الإيطاليين اللذين عُثر عليهما وهما يبكيان في شقتهما تُظهر كيف أن أولئك الذين هم في حياة زوجية هم غالباً أكثر من يعانون من العزلة». ووفق هينسليف فإن «من الصعب أن تشعر بأنك وحيد في زيجة طويلة وسعيدة. لكن من الأكثر سهولة مما يبدو -ربما- أن تشعر بالوحدة». وتابعت أن قصة الإيطاليين «تُظهر أنهما كانا يعانيان من وحدة رهيبة، فبعد 70 سنة من زواج يبدو سعيداً بقي كل منهما للآخر، لكن ذلك بوضوح لم يكن كافياً (لعدم الشعور بالوحدة)». وتابعت: «من السهل جداً أن تصبح منغمساً في شكل كلي بالحياة العائلية وتصحو في منتصف العمر وأنت تشعر بصعوبة لتذكر متى أجريت آخر محادثة ذات معنى (مع شريكة حياتك). هذا الشعور قد لا يعني أنه شعور بالوحدة، لكنه الخطوة الأولى على هذه الطريق». وقالت: «الحقيقة الفجة أن ليس كل الناس الوحيدون هم عجزة محبوبون يفطرون قلبك (…). الزيجات غير السعيدة، الغرق في فترات صمت طويلة والعيش في حياة منفصلة، قد تكون لها علاقة بذلك (الوحدة)، لكن قصة جول وميشيل توحي بشيء مختلف: إنه نوع خاص من الوحدة لا ينبع من غياب شخص آخر ملموس ولكن من شعور بانعدام الاتصال بالعالم الخارجي، الشعور بأنك لم تعد جزءاً من شيء مشترك وبأنك إنسان. هل من المصادفة أن أزمة العجوزين الإيطاليين يبدو أن سببها سلسلة أخبار –هجمات عنيفة واستغلال (جنسي) للأطفال في حضانة– تكشف الطبيعة الإنسانية في بعدها الأكثر برودة». وزادت: «إنه الشعور بأنك مرفوض، لا تنتمي إلى مكان أو أنك تقف بعيداً من الآخرين، إنه العلامة الفارقة بالشعور بالوحدة وسط الجموع، وهذا ليس حصراً بأي شكل بكبار السن».

المصدر

مشاركة

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لـ المدينة الرقمية لكبار السن في الدول العربية© 2022