بيدٍ واهنة يحرك أشهان زجاجات المياه المعدنية لوضعها فوق الأرفف في سوبر ماركت «تيسكو» في منطقة «نيو مولدون» جنوب لندن.
لا يشتكي أشهان على رغم أن حرارة الجو تجعل حمل الزجاجات أكثر مشقة من المعتاد. ففي أي سوبر ماركت تحتاج الأعمال إلى مجهود جسدي شاق، وما يقوم به أشهان ليس الأصعب.
الأصعب والأشق يقوم به من تترواح أعمارهم بين العقد الثاني والعقد الخامس. أشهان (62 سنة)، كان من المفترض أن يكون قد تقاعد الآن ليستمتع بحياته لولا تعديلات أدخلت على سن التقاعد، الذي ارتفع إلى 65 سنة للرجال والنساء (سن تقاعد النساء كان 63 سنة قبل عام 2018). ومع ذلك يبتسم أشهان باستسلام:» ربما لا أعدّ محظوظاً مقارنة بأبي الذي تقاعد في سن الـ60. لكنني بالتأكيد أكثر حظاً من أبنائي وأحفادي وأبناء أحفادي. فسن التقاعد سيرتفع إلى 66 سنة العام المقبل، وإلى 67 سنة بحلول 2026. وعلى هذا المنوال سيكون سن التقاعد 75 سنة بحلول 2050».
يدرك أشهان أنه «قيمة مضاعفة» في نظر السلطات. فهو سيظل مصدراً للضرائب، ولاستقطاعات الراتب حتى وهو في خريف العمر. ويوضح متسائلاً: «المفارقة أن الاستقطاعات التي تؤخذ من راتبي لتكون جزءاً من معاشي التقاعدي تتراكم مع تمديد سن التقاعد، لكنني عندما أتقاعد هل سأكون في صحة جيدة للاستمتاع بها؟».
إنها معضلة شخصية معقّدة لكنها جزء من معضلة أكبر وأكثر تعقيداً تخص ليس أشهان وحده، لكن العالم كله.
فوفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي لا مناص من رفع سن التقاعد في بريطانيا وغيرها من بلدان العالم إلى 70 سنة خلال السنوات الـ20 المقبلة تفادياً لأفدح أزمة تقاعد في التاريخ، لأن أكبر ستة اقتصادات في العالم تتجه نحو أزمة تمويل برنامج المعاشات والتقاعد.
وأورد تقرير المنتدى أن ديون هذه الاقتصادات لتمويل برامج المعاشات والتقاعد ستتضاعف 4 مرات لتبلغ 224 تريليون دولار بحلول 2050، ما لم يُرفع سن التقاعد ليعمل المواطنون سنوات أطول ويدخرون في صناديق المعاشات أكثر.
فمع أرتفاع متوسّط أعمار الذين يولدون اليوم إلى أكثر من 100 سنة، يحذّر المنتدى من أن كلفة معاشات هؤلاء ورعايتهم الصحية ستصبح أزمة عالمية توازي في خطورتها التغيير المناخي. كما يشير في تقريره إلى أنه من خلال دراسة أكبر 6 أنظمة للمعاشات في العالم، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وهولندا وكندا وأستراليا، وجد أن صناديقها التقاعدية تتعرّض لضغوط مالية هائلة بسبب ارتفاع أعداد من هم فوق الـ65 سنة من 600 مليون شخص حالياً إلى 2.1 بليون شخص بحلول 2050.
وبإضافة الصين والهند، الأكثر تعداداً للسكان في العالم (يقارب عدد سكانهما 3 بلايين نسمة)، تبلغ الفجوة بين قيمة صناديق التقاعد من ناحية، وكلفة المعاشات والرعاية الصحية من ناحية أخرى في البلدان الثمانية نحو 400 تريليون دولار بحلول عام 2050، ما يعادل خمسة أضعاف حجم الاقتصاد العالمي الحالي.
وعلى رغم أن سن التقاعد في بريطانيا مثلاً سيرتفع إلى 67 سنة بحلول 2026، إلا أن المنتدى الاقتصادي يحذّر من أن هناك حاجة إلى رفع سن التقاعد أكثر وأكثر لمنع حدوث زيادة متوقعة في فجوة مدخرات التقاعد من 8 تريليون دولار إلى 33 تريليوناً بحلول عام 2050.
فنصف الأطفال الذين ولدوا العام الماضي يتوقع أن يعيشوا حتى يبلغوا الـ103 سنوات، ما يشكّل عبئاً هائلاً على نظام المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية.
ومن هم في سوق العمل اليوم وتقل أعمارهم عن الـ30 سنة، يتوقع أن يتقاعدوا بين أعوام 2040 و2050 وفق تاريخ ميلادهم، ووسط هؤلاء حوالى 44 في المئة سيواصلون العمل بعدما يتجاوزون الـ70 سنة، أي بزيادة 10 في المئة عمن يعملون وهم فوق الـ70 اليوم (33 في المئة من قوة العمل البريطانية).
ومع أن العمل الطوعي بعد سن الـ70 ليس سيئاً بحد ذاته، إلا أن فرض العمل فرضاً في تلك السن عبر رفع سن التقاعد، مع ما يترتّب عليه من أعباء جسدية ونفسية يثير تساؤلات ومخاوف كثيرة.
فالتغييرات التكنولوجية في مختلف مجالات العمل تقريباً تحتّم على الشركات تدريب العاملين لديها مهما كانت أعمارهم على التكنولوجيا الجديدة التي تدخل مجال أعمالهم، ما يرتّب أعباء نفسية وذهنية كبيرة على بعض كبار السن الذين يجدون صعوبة في التعامل مع التكنولوجيا أو المنافسة مع الجيل الأصغر، الأقدر على التعامل مع المستجدات في مكان العمل.
وفي الوقت عينه يحذّر بنك إنكلترا من أن رفع سن التقاعد أدى عملياً إلى تدهور أجور الجميع خلال العقدين الماضيين. ولا عجب أن حوالى 70 في المئة ممن هم في سوق العمل اليوم، سيكونون أسوأ حالاً من أبائهم عندما يتقاعدون، سواء من الناحية الصحية أو المالية أو النفسية.
إعادة تعريف دولة الرفاه
إذاً، يطرح رفع سن التقاعد إلى 70 سنة أو أكثر معضلات اقتصادية وثقافية وصحية وسياسية وأخلاقية عدة. فتاريخ سن التقاعد مرتبط بولادة دولة الرفاه في أوروبا، والتغييرات التي تحدث فيه حالياً تشير إلى تآكل دور هذه الدولة وقدراتها كما عرفها الأوروبيون خلال العقود الماضية.
ففي ألمانيا أقرت الدولة منذ عام 1916 سن التقاعد بـ60 سنة وتمنح الدولة بموجبه معاشات شهرية. وحذت بريطانيا حذوها في ثلاثنيات القرن الـ20. أما أميركا فقد حددت سن التقاعد ونظام المعاشات الحكومية عام 1935، عندما أقر الرئيس فرانكلين روزفلت تشريعات الضمان الاجتماعي.
لكن سن التقاعد تحوّل من قرار بيولوجي – أخلاقي، إلى قرار سياسي- اقتصادي. فمع تقدّم العناية الطيبة ارتفعت أعمار السكان في العالم كله حتى في البلدان النامية. وستتضاعف نسبة البالغين 60 سنة وأكثر في العالم من 12 في المئة عام 2015 إلى 22 في المئة من تعداد السكان بحلول 2050، ومن المستحيل اقتصادياً ترك إعالتهم على الشرائح الأصغر سناً.
وبعدما كان متوسّط كلفة برامج الرعاية الاجتماعية في أوروبا نحو 10 في المئة من الناتج القومي الإجمالي، أصبح 21 في المئة.
ومع استمرار سياسات التقشّف والتباطؤ الاقتصادي بعد الأزمة المالية في عام 2008، وارتفاع الأعمار وتضخّم كلفة الرعاية الصحية، بات التقاعد في سن الـ60 «رفاهية» لا تقدر أوروبا عليها. وهذا ما دفع بكثر إلى «اختيار» أن يواصلوا العمل حتى عندما يتجاوزون سن التقاعد الرسمي، لضمان الحصول على رواتب لائقة نوعاً ما بدلاً من الاعتماد على معاشات تقاعدية صغيرة من الدولة بالكاد تكفي.
اختر سن معاشك
فلم يعد التقاعد بعد سن معيّن إلزامياً في أوروبا. فالتعديلات القانونية الأخيرة في بريطانيا تجعل الفرد «يختار» التقاعد عندما يبلغ الـ65 سنة، أم يواصل العمل طالما استطاع وأراد. طبعاً تغيير مفهوم التقاعد مرتبط بتغيير مفهوم العمل. فالعمل لم يعد يعني دواماً كاملاً أو عقداً دائماً. فحوالى 22 في المئة من الأوروبيين يعملون في شكل مستقل ومن بيوتهم. ولا تختلف هذه النسبة في بريطانيا.
وقد تضاعفت نسبة الأشخاص الذين يتقاعدون بعد سن الـ70 في بريطانيا منذ عام 2010، فحوالى 33 في المئة من البريطانيين يواصلون اليوم العمل بعدما بلغوا الـ70 سنة، مقارنة بـ17 في المئة فقط عام 2010.
ويبدو أن هذه هي الطريق التي يتجه لها العالم. فقد وافقت الحكومة اليابانية أخيراً على خطط تتيح للمواطنين «اختيار» البدء في الحصول على مستحقات التقاعد بعد سن الـ70 في الوقت الذي تواجه فيه نقصاً حاداً في الأيدي العاملة وزيادة تكاليف الرعاية الاجتماعية وانكماش القاعدة الضريبية الناجمة عن ارتفاع معدّل أعمار المواطنين. وأفادت الحكومة بأنها ستنظر في ترسيخ تلك المقترحات من خلال إجراء تغييرات قانونية في نيسان (أبريل) 2020. كما ستنظر في رفع سن التقاعد الإلزامي على مراحل من 60 إلى الـ65 سنة، ويشمل حوالى 3.4 مليون من موظفي الدولة.
ويحق لليابانيين البدء في الحصول على مستحقات التقاعد في أي وقت بين الـ60 والـ70 سنة، في حين يحصل من يختار الإفادة من مستحقاته بعد الـ65 على مبالغ شهرية أكبر.
وتوضح هذه السياسة كيف يمكن بلداناً من ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، إلى الصين واليابان والولايات المتحدة التعامل مع التحديات الناجمة عن مجتمعات تكبر في السن، وتواجه نقصاً في العمالة وتضخماً في نفقات الرعاية الاجتماعية.
أنه مستقبل قد يكون حافلاً بالتطورات التكنولوجية والصحية، لكنه لا يخلو من جانب مظلم حزين. إذ علينا أن نعمل جميعاً لتمويل هذه الطفرات الاقتصادية والتكنولوجية والصحية، وحتى نسقط إعياء ونحن في الـ80 قبل نهاية الألفية.
المصدر : الحياة