فى بلد يعج بمئات كبار السن المنتشرين على ارصفة الطرقات يبحثون عن لقمة عيشهم، وعن نهاية حياة كريمة وهادئة، يفترش البعض الآخر الحدائق العامة في بيروت يبحثون عن هدوء مفقود في ساعات الصباح الاولى يتصفحون الصحف ويتبادلون الاحاديث اليومية مع نفس الاشخاص منذ سنوات طويلة.
حديقة اليسوعية او كما يعرفها البعض احد اهم المتنفسات الباقية لسكان العاصمة خصوصاً لكبار السن فيها الذين لا حول ولا قوة لهم، ينتظرون انتهاء قطار الحياة على مقاعد الحديقة، يحمل بعضهم الكتب او الصحف او الكتاب المقدس، بالقرب منهم رجل يخبر صديقه الوحيد المتبقي على قيد الحياة من بين مجموعتهم عن مغامراته في القرن الماضي. ينصت اليه رغم ان الحديث نفسه يكرره له معظم الايام فبحسب العم جورج “ليس لطانيوس سوى تلك القصص”.
الحديقة نقطة التقائهم
عشرات الرجال الكبار في العمر يستيقظون في الصباح الباكر ليتناولوا فنجان قهوتهم في المنزل، ومن ثم التوجه الى نقطة التقائهم في الحديقة، هنا الجميع يعرفون بعضهم البعض، السيجارة رفيقة معظمهم رغم تقدمهم في السن لا يحبذون مفارقتها “شو باقي بهالعمر حتى نتركها” يردد العم جورج فهو حسب تعبيره موظف سابق في الدولة، لا يستطيع الا القيام “بالصبحية” مع الاصدقاء في الحديقة فزوجته توفيت منذ 6 سنوات واولاده يعملون حتى الثانية ظهراً ولا يمكنه القيام بأي عمل لتقدم سنه فيلجأ الى متنفسه الوحيد في المنطقة.
تحت شمس ساطعة في برد كانون يتوزع كبار السن على مقاعدهم المعهودة وكأنهم على مقاعد الدراسة كل شخص يعرف مسبقاً مقعده، يصبّحون على بعضهم البعض يتفقدون الغائب منهم كدوام مدرسة حقيقي، ينتقل البعض منهم الى المكتبة داخل الحديقة يصبّحون على الموظفة ليتمجلسوا على كراسيهم ويطالعوا الصحف اليومية، ينقاشون بصوت منخفض الاحداث والمقالات وكأنهم داخل حوار سياسي، ليدخل بعدها العم يوسف والذي يعتبر نفسه احد الموظفين كونه من المداومين اليوميين في تلك المكتبة وفي حال تأخره بعض الوقت يتساءل رواد المكتبة “وين صار يوسف”.
في حياة قد تكون حلمًا بالنسبة للبعض، يشترون بها راحة بالهم بعد ان مر بهم قطار العمر بسرعة، بينما البعض الآخر في حديقة اليسوعية يفضل افتتاح نهاره “على رواق” قبل ان تبدأ الحديقة باستقطاب العمال والاطفال خصوصاً في فترة بعد الظهر، ليتحول هدوء الصباح الى ضجة اطفال وعمال اجانب يعملون في المباني المجاورة.
ينتظر نهاية العالم
على مدخل الحديقة يجلس العم تامر نصر وحيداً يقرأ في الانجيل يأخذ العبر منه ويخبرنا عن نهاية العالم القريبة، فبنظره ان الدنيا قد امتلأت ظلماً وفساداً وهي بانتظار المخلص، يحدث عن تاريخه المهني في الكتابة وفي الصحافة وكيف ان له بعض الكتب بحاجة الى طباعة، يحمل بطاقته النقابية في جيبه، متناسياً مرور الزمن عليها، ينتقل من موضوع الى آخر دون ترابط افكار ليعود مجدداً من رحتله في الذاكرة الى نهاية العالم، وكأنه ينتظر المخلص على مقعده في الاشرفية، غير آبه بالحشرات التي تحوم حوله، فالتركيز على القراءة هو الاهم بالنسبة اليه.
بالقرب من العم تامر يجلس حسان ينده بصوته الخفيف علينا ليسألنا عن المهمة التي قدمنا من اجلها يقول “انتم غرباء عن الحديقة لم اشاهدكم من قبل” رغم ضعف حاسة السمع لديه الا انه مُصر على بذل مجهود ليخبرنا عن الحديقة وعن الاشخاص المداومين فيها وعن عمل اولاده مضيفاً “ما في شي اعملو بالحياة، بموت فقع اذا ما ضهرت من البيت” فحياته مرتبطةً بالحديقة والكتب ينتظر الموت فالحياة العملية توقفت عند سن الستين بعد ان اصابه بعض الامراض فهو بالكاد يستطيع المشي والسمع.
ومن رجل الى آخر، الحالة العامة نفسها، يتحدثون عن المرحلة السابقة للحديقة وكيف كانت ستتحول الى موقف للسيارات وتم منع ذلك، والابقاء على ارثها الاجتماعي والثقافي آملين الّا تتحول مع التوسع العمراني في السنوات القادمة الى حديقة باطون فقط كغيرها من الاماكن في بيروت والتي تقلصت مع مرور الوقت فيتحسر العم ابراهيم على الايام السابقة للحدائق في بيروت فيتذكر بشكل خاص أنه كانت توضع بداخلها، أو عند مداخلها، ما يعرف باسم “صندوق الفرجة”، وهو صندوق خشبي يحتوي على صور متتابعة يحركها صاحبه، او حامله، قائلاً ومردداً بصوت مرتفع: “تفرّج عالدنيا يا سلام، عنتر والشاطر وفارس الاحلام”، وغيرها من القصص. مضيفاً ان ايام الاعياد في الحدائق في “العصر الذهبي” حسب تعبيره كانت مختلفة خصوصاً في حرش بيروت وحديقة الصنائع حيث الحياة البيروتية الاصيلة يجتمع الاولاد حول العاب العيد يشترون الكرابيج من الباعة وغزل البنات كذلك تنتشر عربات الحنطور خارج الحدائق كي تقلّ الاولاد في مشوار قريب ذهاباً وإياباً، لقاء مبلغ بسيط من المال، اما اليوم فاختلفت الامور الاطفال يلعبون بالاجهزة الذكية وفي حال قدومهم الى الحديقة يأتون مع مدبرة المنزل لا الاهل فهم منشغلون بتأمين لقمة العيش اليومية ولا وقت لديهم لمثل هذه الامور … الحياة اختلفت كثيراً كل الامور مصطنعة حتى الضحكة.
ازدواجية المجتمع
وبالقرب من الحياة الهادئة التي يعيشها بعض كبار السن داخل الحديقة، رجل عجوز آخر، اختار ان يفترش الارض ليبيع ما تيسر له من قطنيات وبعض الملابس وعلب السجائر في ازدواجية توضح الفرق الشاسع بين ما أمنت له الحياة نهاية عمر مشرفة نوعاً ما وبين فئة واسعة من الشعب اللبناني تنتظر المجهول في نهاية عمرها حيث لا ضمان شيخوخة ولا طبابة ولا من يحزنون فيكملون حياتهم المهنية متناسين كبر سنهم، حالمين بنهاية حياة كما بعض كبار السن داخل الحديقة.