أوصانا القرآن الكريم بكبار السن خيراً فقال سبحانه:
{وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (الإسراء: 23)،
ويحتاج كبار السن إلى معرفة حكمهم من صيام رمضان؛ خاصة فى حال عجزهم أو وجدهم المشقة فى صيامهم مما أوجب علينا بيانه. أما كبار السن القادرون على الصوم فلا خلاف بين الفقهاء على وجوب صيامهم لشهر رمضان؛ لعموم قوله تعالى:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185)، إلا ما روى عن ابن عباس من القول بأن قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة: 184)،
غير منسوخ وهو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً.
وقد أجمع الفقهاء على أن المشايخ (كبار السن) من الرجال والعجائز من النساء الذين لا يستطيعون الصيام، أو يطيقونه على مشقة أو حرج لهم أن يفطروا. ثم اختلفوا فى الواجب عليهم بهذا الفطر حال المشقة، على مذهبين.
المذهب الأول: يرى وجوب الفدية على كبار السن إذا أفطروا للمشقة. وإليه ذهب جمهور الفقهاء، قال به الحنفية والشافعية فى أحد القولين، وهو مذهب الحنابلة. وحجتهم: من الكتاب والسنة والمأثور:
(1) أما دليل الكتاب فمنه قوله تعالى:
{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة: 184)،
ووجه الدلالة: أن الله تعالى جعل حكماً للمريض والمسافر، بالفطر ثم الإعادة، وحكماً آخر لكبار السن الذين لا يطيقون الصيام، أو يطيقونه بمشقة فأوجب عليهم الفدية إذا أفطروا، ومما يدل على أن المقصود بقوله تعالى: «يطيقونه» كبار السن هو ما رواه الدارقطنى بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قرأ الآية: «يطوّقونه» -بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو، بمعنى يكلفونه- قال: هذه ليست منسوخة، وهى للشيخ الكبير الهرم، وللمرأة الكبيرة الهرمة، لا يستطيعان الصوم، يفطران ويطعمان كل يوم مسكيناً.
(2) وأما دليل السنة فمنه ما رواه الدارقطنى والحاكم والبيهقى بإسناد صحيح، عن ابن عباس (رضى الله عنهما) قال: رُخِّص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليه. ووجه الدلالة: أن قول ابن عباس (رضى الله عنهما) رُخص -بالبناء للمجهول- يعنى أن الذى قال بالترخيص هو النبى (صلى الله عليه وسلم)، وبناه للمجهول للعلم به؛ لأن الترخيص لا يكون إلا توقيفياً، أى عن النبى (صلى الله عليه وسلم).
(3) وأما دليل المأثور فما روى عن كثير من أهل السلف أنهم قالوا بوجوب الفدية على الشيخ الكبير إذا أفطر فى رمضان. ومن هؤلاء على بن أبى طالب وأنس بن مالك وأبوهريرة وابن عمر وابن عباس، وغيرهم. وهم لا يقولون ذلك إلا عن توقيف؛ لحسن الظن بهم.
المذهب الثانى: يرى عدم وجوب الفدية على كبار السن إذا أفطـروا للمشقـة بل يسقط عنهم فرض الصوم بغير بدل. وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية فى القول الثانى عندهم، وبه أخذ ابن حزم الظاهرى، وروى عن ابن عباس، وبه قال ربيعة شيخ الإمام مالك، والثورى ومكحول واختاره ابن المنذر. وحجتهم: من الكتاب والسنة والمعقول.
(1) أما دليل الكتاب فمنه قوله تعالى:
{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 185).
ووجه الدلالة: أن الله تعالى جعل فى هذه الآية المحكمة حكم المريض والمسافر، وأوجب عليهما القضاء حين التمكن، وسكت عن الشيخ الهرم والعجوز الهرمة، فدل هذا على سقوط فرض الصوم عنهما للمشقة؛ لعموم قوله تعالى:
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} (البقرة: 286)،
فلم يجب عليهما شىء؛ لأن القول بإيجاب القضاء أو القول بإيجاب الفدية على كبار السن العاجزين عن الصوم قول بغير دليل، وشرع لم يأذن الله به. ولا يقال إن الفدية واجبة بالآية قبلها
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة: 184)،
لأنا نقول إنها منسوخة لعموم الآية التالية وهى قوله تعالى:
{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185)،
كما صح عن ابن عباس.
(2) وأما دليل السنة فمنه ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام»، وما أخرجه الدارقطنى برجال ثقات، عن أنس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه». ووجه الدلالة، كما يذكره ابن حزم: أن تكليف كبار السن ونحوهم بالإطعام عن الأيام التى أفطروها للمشقة فيه تغريم بما لم يأت به نص أو إجماع، وقد نهى الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك. وكأن ابن حزم يجعل الفتوى بالفدية على كبار السن العاجزين عن الصوم نوعاً من إضاعة المال وأخذه بغير حق؛ لأنها فتوى بغير دليل.
(3) وأما دليل المعقول على سقوط فرض الصيام عن كبار السن ولا فدية عليهم، فهو أنهم ضعاف عن الصيام لشيخوختهم، فلم يجب عليهم قضاء ولا فدية؛ قياساً على الصبى غير البالغ.
وإذا ثبت اختلاف الفقهاء فى حكم صوم رمضان على كبار السن العاجزين أو الذين يجدون مشقة فى صيامه فمنهم من أوجب عليهم الفدية إطعام مسكين أو مقداره عن كل يوم يفوتهم صيامه من رمضان، ومنهم من يرى براءة ذمتهم من الصوم ومن أى فدية عنه كما بيناه، فإن من حق عموم المسلمين الأخذ بأى من هذين المذهبين دون تفضيل أحدهما على الآخر إلا بحسب ارتياح ضمير كل إنسان لنفسه؛ لعموم ما أخرجه أحمد عن وابصة بن معبد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: «استفت نفسك استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك»، وعلى أهل الخطاب الدينى أن يرفعوا وصايتهم بتزكية أحد هذين المذهبين وتخويف الناس بغير حق من المذهب الآخر؛ لما فى هذه الوصاية من الافتئات على الغير فضلاً عن الإساءة للفقهاء الكبار أصحاب المذهب الآخر. كما يحق لعموم المسلمين العمل بما روى عن ابن عباس من أن كبار السن رجالاً ونساءً ليس عليهم صيام وإنما الواجب فى حقهم هو الفدية إطعام مسكين عن كل يوم من رمضان حتى لو كان هؤلاء الكبار فى السن قادرين على الصوم؛ لقوله تعالى:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة: 185).
المصدر : جريدة الوطن