المدينة الرقمية لكبار السن في الدول العربية

فن الشــيخوخة فى صـــحة الوطـــن!

فن الشــيخوخة فى صـــحة الوطـــن!

بقلم : وفاء محمود

 

يعلم الشيوخ جيدا صحة ما قاله (شيشرون): إن الأشياء العظيمة، لا يمكن إدراكها بالقوة البدنية وخفة الحركة، التى يملكها الشباب، بل بالمشورة والسلطة والحكمة الناضجة، التى لا تنقص الشيوخ، بل توهب لهم بسخاء، ورغم ذلك دائما ما يقع الشيوخ فى حالة اللامبالاة، لتحل بهم نقمة الزهد فى الحياة!

هذه النقمة لا تضر بالشيخ فقط، الذى أراد أن يعلن شهادة وفاته قبل أن يحين الأجل، ولكنها تضر بالوطن، الذى ينتمى إليه، فحب الحياة، على مشقاتها،هو الدافع الأساسى للتقدم والتطور، وتأسيس دعائم قوية للأجيال القادمة، تضمن لها مستقبلا آمنا وسعيدا، وانسحاب الشيوخ مضر بالجميع بما لهم من خبرة لا تقدر بثمن، فهم أخبر بشمس بلادي، كما يقول المثل المصرى الأصيل، يعلمون من أين تشرق وإلى أين تغرب، وإهدار قيمتهم طوعا، أو جهلا، يهدر معه مستقبل أجيال شابة، تفتقد إلى الحضن الدافيء المؤهل لرعايتهم وحمايتهم من نزق الشباب وجهله!

كل الناس خبرت ما هو الجهل، فكل مرحلة تحمل علما يتناسب مع المرحلة السنية التى يمر بها الإنسان، وعندما يتطور إلى مرحلة لاحقة، يكتشف مدى جهله الأسبق، ويتعجب من حماسه لهذا الجهل، والعلم بالجهل من أطرف ما يمر به الإنسان ومن الطبيعى أن التجارب والاطلاع والخبرة بالحياة تعطى الشيوخ مخزونا ثمينا، وتخلصهم من الحماس الأخرق، ليفيدوا المجتمع الذى نشأوا فيه بدقة معاييرهم البعيدة عن العواطف الملتهبة، التى أخمدتها التجارب، وصقلتها الدراسة، لذا فمصير الشعوب بشيوخها، والعرب خير دليل على ذلك!

عندما ينسحب شيوخ العلم والثقافة، ليسود شيوخ الجهل والتخلف، من يعبرون عن التشوهات الأيديولوجية على أنواعها، فمن الطبيعى أن يستعر الاحتراب الداخلي، وتنهار ال198685_Large_20140129011541_7مناعة الداخلية للأوطان، وهو ما تهدف إليه قوى التلاعب الكبري، القادرة على تزكية الفتن، بما تملكه من خبرات لشيوخها، يمدونها بما تملك من قوى عقلية، ومهارة تخريبية لتدمير القوى المناوئة للسيطرة والهيمنة العالمية، ففى حين نهدر نحن قيمة شيوخنا من العلماء والمثقفين، تستفيد القوى العالمية من شيوخنا الجهلة، بتمويلهم ونفخهم كعوامل تخريب داخلية، ينشرون أيديولوجياتهم المغلفة الساذجة السطحية !، التى تتمسك بقشور الأفكار، وتحارب من يكشف ثقافتها، بالجعجعة العالية كالطاحونة الخربانة، واتهامات التكفير، والدعوة الصريحة إلى القتل، فذلك أهون عليها من أن تفقد مكانتها الخادعة فى نفوس البسطاء، من تكالب الفقر عليهم والمرض، واكتفوا بغرور الجهل غطاء مقبولا لتعاستهم!

من أنقذ مصر من الضياع بين أنياب الضباع، كبار السن من شيوخها الأجلاء الذين خبروا الحياة المتحضرة، وكذلك التجارب الأيديولوجية المفلسة، احتضن الشيوخ الشباب فى لحظة تاريخية نادرة التكرار، للتوجه للطريق المعرفى المفتوح، فثورة (30يوينو) ثورة اجتماعية تعانق فيها خبرة الشيوخ وعنفوان الشباب، التيار الجارف فى ربوع مصر الحضارة، العاشقة للحياة فى الدنيا وحتى بعد الموت! الملايين التى تشكل ملح الأرض الذى لا يفسد! فكسحت شيوخ الإفك والضلال!

وتشبثا بهذه النقلة التاريخية، يحتاج الوطن أشد ما يحتاج إلى حكمة الشيوخ وعليهم أن يتخلوا عن أنانيتهم والعزوف عن الحياة، التى ملوها بحكم السن لتكرار حلوها ومرها عليهم، أو لجحود الشباب لقدراتهم، وهى أمور يسهل توضيحها وتجاوزها، بشيء ثمين يعطى للحياة معني، وهو «الحب» وهى كلمة غير رومانسية أو خيالية، ولكنها فى الواقع هى أصل الحياة الواقعي، وارتواء شجرة الحب فى حياتنا، لا يتطلب إلا فن الحياة، لدى الشيوخ، ولدى الشباب، فالشيوخ فنهم يقوم على تحويل اللامبالاة إلى ثقة فى الذات وهدوء البال، واستيعاب جهل الشباب،هذا الجهل الذى مروا هم به من قبل وأحيانا.لا يستطيع الشيوخ هضم الأفكار الجديدة، ما لم يتعودوا عليها، فن الشيخوخة المرهف يميز بين المعاني، ويمد جسور التعاون والتآلف بين الأجيال ليتحقق فى النهاية بالفعل انتصار الشباب!

فى هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الوطن التى يعاد فيها تشكيل الكيان الوطنى على أسس علمية، ما علينا إلا إعادة تشكيل المجالس القومية المتخصصة، التى ضمت نخبة الوطن من علمائه فى كل المجالات، قدموا دراسات قيمة علينا إحياؤها للاستفادة منها فى نهضة مصر، وعودة ثروة مصر العلمية من شيوخها الأجلاء، القوى الحقيقية التى يمكن الاعتماد عليها فى البناء، من يأنفون من ارتداء عدة النصب الفضائية، من الجعجعة والصوت العالي، والإثارة اللغوية الفارغة التى هدت حيل الوطن فى الأعوام الأخيرة، بأيدى شيوخ غامروا بالوطن ومصالحه كرها فى نظام، لم يكن لهم فيه دور أو زعامة، فأزاحوه بغوغائية الشعارات الثورية، وتمادوا حتى كادوا أن يطيحوا بالدولة مثلهم مثل الطمعنجى الذى بنى له بيت فإذا بفلسنجى يسكن فيه!

تلك السنوات المضطربة لم تذهب هباء، ولكنها كشفت الغطاء عن حيل النصب وعدته وشيوخه وثواره ومنافقيه، وخلقت وعيا عميقا باللجوء إلى أهل العلم إن كنتم لا تعلمون، وأهل العلم فى المحروسة قادرون على إنهاء العركة المنصوبة لتقسيم الوطن بين شيوخ وشباب ورجال ونساء إلى آخر التقسيمات المذهبية والطائفية وطوبة على طوبة نفسد عليهم العركة المنصوبة!.

المصدر : الأهرام اليومى 

مشاركة

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لـ المدينة الرقمية لكبار السن في الدول العربية© 2022