لآباء والأمهات عندما يبلغون من الكبر عتيًا، يحدوهم الأمل في أن يجنوا ثمار غرسهم الذي أنهكهم طوال سنين, ويعوضهم بدلًا من الملامح التي خطت على وجوههم وظهرت جليًا في انحناء ظهورهم، فينظرون لأبنائهم بعين الرجاء والأمل لكي يردوا لهم الجميل الذي عُلّق دينًا في أعناقهم، وخاصة بعدما ترك الزمن آثاره من وهن ومرض بعد مرحلة الشباب والقوة وحاجتهم إلى رعاية خاصة، بعد أن ينشغل أبناؤهم في حياتهم الخاصة ليصارعوا آلامًا جسدية ونفسية..
مشكلات كبار السن لا تكمن في المعاناة الجسمية فقط لإصابتهم بأمراض الشيخوخة، والأمراض المزمنة، بل إنها تتعدى ذلك إلى مشاعر البؤس والشقاء، التي تنتج عند إحساسهم بأنهم أصبحوا بلا فائدة في المجتمع، وإلى مشاعر الوحدة واليأس التي تنتابهم، وحساسيتهم الزائدة من إصابتهم بالضعف بعد المرض، ليكون دعاؤهم في آناء الليل “يا رب ما ترمينا”.
مساعدة بمقابل
الشاب حمزة يوسف (25 عامًا) وهو خريج تجارة وعاطل عن العمل، قال: “يواجه المسنون في هذه المرحلة العمرية كثيرًا من الصعوبات نتيجة بعض تغيرات الجسدية والنفسية، فليس من السهل أن يقبلوا بالمساعدة، فيكابرون على أنفسهم حتى لا يشعروها أنها أصبحت ضعيفة، وليثبتوا لمن حولهم أنهم لا يزالون أقوياء، ويستطيعون خدمة أنفسهم بأنفسهم”.
وأضاف: “بعد وفاة جدتي، أصبح جدي يعاني المرض والوحدة، ولكنه كان يتحسس من أي ابن أو حفيد يعرض خدماته في تقديم المساعدة له، أو إعانته بأي شيء، حتى عصف به المرض واشتد عليه، فطلب مني أن أقدم له المساعدة مقابل عائد مادي شهريًا، رغم أن أعمامي غير مقصرين معه، ولا يتركونه”.
حساسية زائدة
وتحدثت زهرة حسن (35 عامًا) وهي ربة بيت, عن والدتها التي زادت مشاكلها النفسية بعد مرضها، بسبب عدم تكيفها مع وضعها الجديد، فتزداد احتياجاتها النفسية مع زيادة وقت الفراغ لديها، الأمر الذي يشعرها أنها تريد أبناءها دائمًا بجوارها رغم عدم تصريحها بذلك.
وأوضحت حسن لـ”فلسطين” أن ما يزيد من المشكلات الاجتماعية شعور والدتها بالوحدة والعزلة عن حياة المجتمع، وقد بدأ هذا الشعور بحياة الحرمان من العلاقات العائلية _خاصة بعد إصابتها بـ”الزهايمر”_ والتي كانت تؤلف جزءًا كبيرًا من اهتماماتها اليومية، مما وضع القيود على تحركاتها وعلاقاتها الشخصية بالآخرين.
وأضافت: “كما أن كثيرًا ما تخونها عيناها وتبكي على أيام كانت فيها في أوج قوتها، لا تحتاج لأحد أن يقدم لها المساعدة، رغم أني دائمًا ما أهون عليها بأننا أبناؤك ومن الواجب علينا أن نكون بجانبك في مرضك وفرحك وكبرك وضعفك”.
الاهتمام الصحي والنفسي
بدوره، أشار الأخصائي النفسي زهير أبو ملاخة, إلى أن كبار السن يجب أن يتم التعامل معهم بيقظة وفهم لطبيعة المرحلة التي يمرون بها، خاصة أن درجة الحساسية تكون كبيرة، لأنها تأتي بعد مرحلة من القوة والسيطرة، ولشعورهم بعدم القدرة على السيطرة والعطاء، والشعور بالضعف، فذلك له أثر نفسي كبير.
وبيّن أبو ملاخة لـ”فلسطين” أن تقدم المسن العمري يجعله دائم التواجد في البيت، بلا عمل أو بذل جهد، فيما الجميع منشغلون من حوله عنه بفعل ظروف الحياة، فيشعر بألم في نفسه، مما يدفعه إلى التوتر والغضب الدائمين، بالإضافة إلى شعوره بأن هيبته وقوته وتحكمه بات غير موجود.
وأضاف: “لذلك ينبغي على الأهل الاهتمام بالمسن صحيًا واجتماعيًا، ونفسيًا، ومحاولة عدم تركه للفراغ لما له من أثر نفسي سلبي عليه، كما يجعلونه المرجعية الدائمة لهم، حتى وإن كانت قدراته لا تسمح بتقديم العون، ولكن للحفاظ على صحته النفسية، يجب ولو بشكل أدبي أن يتم الحفاظ على مكانته بالمرجعية والاستشارة”.
وتابع أبو ملاخة: “يجب التواجد قدر المستطاع حول المسن والإنصات له، والتفاعل مع حديثه وإعطاؤه الأهمية والقدر، فالإهمال يجعله يشعر بالأسى والحزن، وأحيانًا يسقط هذه المشاعر السلبية بالغضب والانفعال والصدامية على من حوله، وبالتالي في هذه المرحلة تتجلى المشاعر النفسية والمعنوية بشكل كبير، فكلما زاد الاهتمام والحب والعلاقة الحميمية، كلما كانت الصحة النفسية للكبير أكثر استقرارًا وأقل تضررًا”.
وبين أن نماذج كثيرة في حياة الناس زادت مرضًا وتعبًا وحزنًا بسبب الإهمال وعدم المبالاة وغياب التقدير والاحترام والفراغ الاجتماعي، لافتاً النظر إلى أن الكبير بالسن يعيش مرحلة ذهنية قائمة على الماضي أكثر من الحاضر، وفي ظل تجرده من الأدوار المهنية والاجتماعية نوعًا ما وجب على الأهل التعويض والاحتضان.
وأوضح أبو ملاخة أن كبير السن يعاني من الحساسية الزائدة، “لذلك يجب على العائلة فهم الاحتياجات النفسية التي يمر بها كبير السن وإشباعها، فأي نقص في تلك الاحتياجات يؤثر سلبًا على الحالة النفسية والصحية”.
وتابع: “كبير السن يكون جسمه مهيأ أكثر للتأثر بأي اضطراب، وعليه يجب الأخذ بعين الاعتبار جوانب الاهتمام والرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية، ومنحه التقدير الذاتي، والذي يشعره بالفخر والمكانة والهيبة والأهمية”.
ونوه أبو ملاخة إلى أنه دون ذلك يعتبر كسرًا للخاطر، وخدشًا للمشاعر، والتقصير في رد الجميل ناهيك عن الالتزام الديني والقيمي في الدعوة لرحمة الكبير, ففيهما البركة والرحمة، كما دعا مؤسسات المجتمع المهني بالاهتمام بهذه الشريحة من المجتمع، والعمل على تحصين الحالة النفسية لهم من خلال الاهتمام والمحافظة والرعاية، وإشراكهم في برامج دعم نفسي وأعمال تطوع ورحلات والجلوس مع كبار سن أمثالهم.