المدينة الرقمية لكبار السن في الدول العربية

أحكام صيام المسنين ( الجزء الأول)

أحكام صيام المسنين ( الجزء الأول)

المسنون فئة غالية في المجتمع الإسلامي، ولهم آداب و أحكام خاصة بهم في مختلف أبواب الفقه الإسلامي، وهذه الأحكام نابعة من خاصية مهمة من خصائص الشريعة الإسلامية، ألا وهو التيسير ورفع الحرج.

فبما أن الإنسان عند كبر سنه معرض للضعف والوهن في كثير من أعضاء جسمه و وظائفها، وقد يكون عاجزا عن القيام ببعض الواجبات، فقد راعت الشريعة الإسلامية هذا الضعف والعجز فخففت على المسن في كثير من الأحكام الشرعية، ومن تلك الأحكام أحكام الصيام، وفي هذا البحث نذكر أهم الأحكام المتعلقة بصيام المسنين، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع به.

و يشتمل البحث على المباحث الآتية:

المبحث الأول : حكم صيام المسن ، وفيه أربعة مطالب:quran

  1. المطلب الأول : سقوط الصيام عن المسن الذي يشق عليه الصوم.
  2. المطلب الثاني : حكم صيام المسن مع تحمل المشقة.
  3. المطلب الثالث :  هل الصوم أفضل للمسن أم الفطر؟
  4. المطلب الرابع : مباشرة المسن لزوجتة وتقبيلها

المبحث الثاني : أحكام فدية إفطار المسن، و فيه ستة مطالب:

  1. المطلب الأول: حكم فدية إفطار المسن.
  2. المطلب الثاني : نوع فدية إفطار المسن .
  3. المطلب الثالث: وقت بذل الفدية وصفته.
  4. المطلب الرابع : تأخير الفدية حتى دخول رمضان آخر.
  5. المطلب الخامس : الصيام عن المسن.
  6. المطلب السادس : إعسار المسن عن دفع الفدية.

 

*****************

المبحث الأول

حكم صيام المسن

المطلب الأول : سقوط الصيام عن المسن الذي يشق عليه الصوم.

اتفق العلماء على عدم وجوب الصيام على المسن الذي لا يستطيعه، أو يشق عليه مشقة شديدة تجهده أو يتضرر منها بالهلاك أو فوات عضو من الأعضاء، أو بالمرض.

وقد نقل الإجماع على ذلك عدد من العلماء، ومنهم:

ابن المنذر -رحمه الله تعالى- فقال: «وأجمعوا على أن للشيخ الكبير والعجوز العاجزين عن الصوم أن يفطروا».

ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- فقال: «أجمع العلماء على أن للشيخ الكبير والعجوز اللذين لا يطيقان الصوم الإفطار، ثم اختلفوا في الواجب عليهما».

ابن رشد -رحمه الله تعالى- فقال: «وأما الشيخ الكبير والعجوز اللذان لا يقدران على الصيام فإنهم أجمعوا على أن لهما أن يفطرا».

استدل أهل العلم على جواز الفطر للمسن الذي لا يستطيع الصيام أو يشق عليه مشقة شديدة بأدلة من الكتاب والأثر والإجماع والمعقول:

1-    قول الله سبحانه وتعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا …} الآية.

2-    وقوله تعالى: {… وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ … } الآية.

3-    وقوله تعالى: {… يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ … } الآية.

وجه الاستدلال أن هذه الآيات الكريمات تضمنت أن الله –تعالى- لا يكلف أحداً الإتيان بما لا يستطيع من أنواع العبادات، وأن الحرج مرفوع في الدين، وأن الله يريد بالمكلفين اليسر ولا يريد بهم العسر، فإذا كان المسن لا يستطيع الصيام، أو يشق عليه مشقة شديدة، فإنه لا يلزمه الصوم ولا يجب عليه بدلالة هذه الآيات الكريمات، وغيرها من نصوص الكتاب والسنة التي تشابهها.

4-    قولـه تعالى: {.. فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ …} الآية.

وجه الاستدلال: استدل العلماء بالآية الكريمة على عدم وجوب الصيام على المسن حسب تفسيرات مختلفة في معنى الآية، ولهم ثلاثة أوجه:

       الأول: أن المقصود بالآية الكريمة الذين لا يطيقون الصوم، أي لا يستطيعون الصوم فلهم الإفطار وعليهم فدية طعام مسكين على تقدير حرف «لا» وقد جاءت نظائر لمثل هذا التقدير في الكتاب الكريم كما في قوله تعالى: {… يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }  أي لئلا تضلوا، وكقوله تعالى:

{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ …}. أي لئلا تميد بهم.

الثاني: أن الآية الكريمة على ظاهرها محكمة وليست بمنسوخة ولكنها خاصة بطائفة من الناس، فهي في حق الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً.

قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: «ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً»[14].

الثالث: أن الآية الكريمة تدل على جواز الفطر لمن يستطيع الصوم مع المشقة؛ لأن الطاقة هي أن يقدر الإنسان على الشيء مع الشدة والمشقة، فمن كان يقدر على الصوم مع المشقة الشديدة يجوز له الفطر.

5-    ما رواه الحسن البصري وإبراهيم النخعي -رحمهما الله تعالى- أن أنس بن مالك – رضي الله عنه – لما كبر أطعم عن كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر، عاماً أو عامين.

6-    ما ثبت من قول ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير الآية «وعلى الذين يطيقونه».

فقال: «هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً».

وجه الاستدلال: أن أنساً وابن عباس رضي الله عنهم يريان جواز الفطر للمسن.

7 – من الإجماع: نقل الإجماع على جواز الفطر للمسن الذي لا يستطيع الصوم أو يشق عليه ذلك مشقة شديدة غير واحد من العلماء، ومنهم ابن عبد البر وابن حزم وابن رشدوابن المنذر.

8- أن كبير السن الذي لا يستطيع الصوم أو يشق عليه ذلك لا سبيل له إلا الفطر لرفع الحرج والمشقة عنه.

المطلب الثاني : حكم صيام المسن مع تحمل المشقة.97698118491098285

ما حكم صيام المسن مع تحمل المشقة الشديدة؟ وهل يجزئه ذلك؟

صرح العلماء في المذهبين الحنفي والشافعي على أن المسن الذي يشق عليه الصوم ومع ذلك صام فإن صومه صحيح ويجزئه، وهو قياس مذهب المالكية والحنابلة.

قال السرخسي -رحمه الله تعالى-: «وأما الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم نصف صاع من حنطة… ولنا أن الصوم قد لزمه لشهود الشهر، حتى لو تحمل المشقة وصام كان مؤدياً للفرض».

وقال النووي -رحمه الله تعالى-: «واتفقوا على أنه لو تكلف – أي المسن – الصوم فصام فلا فدية، والعجوز كالشيخ في جميع هذا، وهو إجماع».

وهو مقتضى مذهب المالكية وقياسه في مسألة صوم المريض الذي يشق عليه الصوم ويصوم.

قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: «أن المريض الحامل على نفسه إذا صام فإن ذلك يجزئ عنه، فدل ذلك أنه رخصة له».

فهذا قولهم في المريض، ويقاس عليه المسن الذي يتحمل المشقة ويصوم بجامع وقوع المشقة والجهد وتحمل ذلك في الكل.

وهو كذلك مفهوم مذهبهم في المسن الذي يشق عليه الصوم أن له أن يفطر.

قال ابن رشد -رحمه الله تعالى-: «وأما الشيخ الكبير والعجوز اللذان لا يقدران على الصيام فإنهم أجمعوا على أن لهما أن يفطرا».

فقولهم: «أن لهما أن يفطرا» يدل على أنهم لا يوجبون الإفطار عليهما، وبناء عليه فالصوم يكون جائزاً إذن.

وهذا القول أيضاً قياس مذهب الحنابلة في المريض؛ إذ إنهم يرون أن المريض الذي يجوز له الفطر لو تكلف وصام فإن صومه يجزئه، ويسقط عنه الفرض مع الكراهية.

قال ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: «فإن تحمل المريض وصام مع هذا، فقد فعل مكروهاً، لما يتضمنه من الإضرار بنفسه، وتركه تخفيف الله –تعالى- وقبول رخصته، ويصح صومه ويجزئه».

وبناء على هذا، يمكن القول أنه لا خلاف بين المذاهب الأربعة في صحة صيام المسن الذي يجوز له الفطر بسبب المشقة وإجزائه مع الكراهة عند الحنابلة خاصة.

استدل أهل العلم لقولهم بصحة صيام المسن الذي يجوز له الفطر بسبب المشقة، وأن ذلك يجزئه بما يلي:

1-    أن الصوم في هذه الحالة واجب على المسن، وجواز الفطر له إنما كان لرفع الحرج، فإذا تحمل وأتى بالواجب فقد أخذ بالعزيمة وترك الرخصة، فيجوز له ذلك ويجزئه.

2-    أنه يجزئه الصوم ويصح منه كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة إذا حضرها.

3-    أنه يجزئه الصوم ويصح منه كما تجزئ الصلاة قائماً للمعذور الذي تجوز له الصلاة قاعداً، ويتكلف ويصلي قائماً.

وهذان الدليلان الأخيران ذكرهما ابن قدامة -رحمه الله تعالى- لجواز الصيام للمريض وإجزائه له مع تحمل المشقة، ويصح الاستدلال بهما هنا بجامع تحمل المشقة في كلا الحالين، ولكون ترك الجمعة، والقيام، والصيام رخصة في جميع هذه الحالات، والإتيان بها عزيمة. والله أعلم.

المطلب الثالث :  هل الصوم أفضل للمسن أم الفطر؟

سبق في المطلب الأول بيان أن العلماء أجمعوا على جواز الفطر للمسن الذي لا يستطيع الصوم أو يشق عليه ذلك مشقة شديدة، وعُرف أنه لا خلاف بينهم في صحة صيامه مع تحمل المشقة، وأن ذلك يجزئه، ولكن هل الصوم أفضل له أم الفطر؟

لم أجد للعلماء في المذاهب الأربعة قولاً في هذه المسألة المتعلقة بالمسن خاصة -فيما اطلعت عليه- ولكنهم اختلفوا في الأفضلية بالنسبة للمريض والمسافر.

والمسن الذي يشق عليه الصيام يأخذ حكمهما بجامع المشقة والجهد؛ وعليه يمكن قياس مسألتنا على ما ذكروه فيهما، وقد اختلفوا في بيان الأفضلية بالنسبة للمسافر والمريض على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن الفطر أفضل، وإلى هذا ذهب الشافعية، وهو قول الحنابلة مع كراهية الصوم.

القول الثاني: أن الصوم أفضل لهما، وإلى هذا ذهب الحنفية، والمالكية.

القول الثالث: استواء الأمرين الفطر والصوم وإلى هذا ذهب بعض العلماء.

وهذا يقتضي أن يكون لهم في المسن هذه الأقوال الثلاثة بجامع أن الفطر في الحالات الثلاثة رخصة، وبجامع وجود المشقة فيهما كما سبق بيانه.

الأدلـة:

استدل أصحاب القول الأول بالأدلة الآتية :

1-               قوله تعالى:  {… يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ … } الآية.

وجه الاستدلال: أن الفطر أيسر فكان أفضل.

2-               حديث ابن عمر -رضي الله عنهما أن النبي –  صلى الله عليه وسلم –  قال:«إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته».

وجه الاستدلال: أن إتيان رخص الله تعالى مرغَّبٌ فيها، والفطر في حالة المرض من رخصه تعالى فكان أفضل.

3-               أن الصوم مع المرض وتحمل المشقة فيه إضرار بالنفس، ولذا كان الفطر أفضل.

4-               أن في صيام المريض مع جواز الفطر له وتحمل المشقة، ترك لتخفيف الله –تعالى- ورخصته، فكان الفطر أفضل.

استدل أصحاب القول الثاني القائلون بأفضلية الصوم بالأدلة الآتية:

1-               قوله تعالى: {… فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .

وجه الاستدلال: أن الله تعالى قال: { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } فبين أن الصيام خير لمن يقدر عليه دون مشقة.

ويمكن أن يناقش وجه الاستدلال: بأن الآية محمولة على أنها منسوخة، وأن هذا الحكم عام لمن يطيق الصيام؛ فهو مخير بين الصيام أو الفطر مع الفدية ثم نسخ الحكم، أو أنه محمول على عدم وجود المشقة المبيحة وهذا خارج النزاع إذ إن مسألتنا في المسن الذي شق عليه الصوم.

2-               ما ثبت من حديث أبي سعيد الخدري  – رضي الله عنه –    قال: كنا نغزو مع رسول الله رضي الله عنه –    في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن».

وجه الاستدلال: قال النووي -رحمه الله تعالى-: «وهذا صريح في ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم عن إطاقة بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة»

3-               حديث أنس – رضي الله عنه –    قال سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم –    عن الصوم في السفر فقال: «من أفطر فرخصة ومن صام فالصوم أفضل».

وجه الاستدلال: بأن الحديث دل على أن الأفضل الصيام لكونه عزيمة والفطر رخصة فالإتيان بالعزيمة أفضل من الرخصة.

ويمكن أن يناقش وجه الاستدلال: بأن الحديث ورد حال السفر، وأنه رُخِّصَ للمسافر الفطر والعلة في الفطر للمسافر هي: السفر وليست المشقة، ولذا استوى الأمران من حيث إباحة الفطر والصوم وترجح الصوم إما لكونه العزيمة أو لتحقق القوة وعدم الحاجة للفطر وهي المشقة، أما مسألتنا فهي الفطر للمسن لوجود المشقة فالعلة هي المشقة وقد وجد ذلك فكان الأفضل لـه الفطر لكونه الأيسر المباح لـه لما سبق من أدلة القول الأول كما أن المشقة إذا تحققت للمسافر فالفطر أفضل لما ثبت من أحاديث صحيحة نهى فيها النبي – صلى الله عليه وسلم –    عن الصيام في السفر كقوله – صلى الله عليه وسلم –    «ليس من البر الصوم في السفر»، ولكن كل هذا ورد في السفر وليس في المريض وكبير السن.

4-               أن المريض والمسافر إما أن يصوما في رمضان أو في غيره، ورمضان أفضل الوقتين فكان الصيام أفضل من الفطر.

5-               أن الفطر بالنسبة للمريض والمسافر رخصة شرعت لرفع الحرج عنه، والصيام عزيمة والإتيان بالعزيمة أفضل من الرخصة فكان الصيام أفضل.

6-               أن في الصوم إبراء للذمة، وبالفطر تبقى الذمة مشغولة

ويمكن أن تناقش الأدلة العقلية بما يلي:

1-               أما الدليل الأول فيسلم به حال العذر بالسفر أو المرض الموجب للقضاء عند الإقامة والشفاء أما مسألتنا فهي للمسن الذي سينتقل للبدل وهو الإطعام فلا قضاء عليه فهو في كل يوم يزداد مرضه وضعفه ولا يرجى شفاؤه في الغالب.

2-               أما الدليل الثاني فلا يسلم به بل الاتيان بالرخصة عند تحقق موجبها أفضل لكون الصيام مع المشقة يلحق ضرراً بالمسن الضعيف.

3-               أما الدليل الثالث فإن المسن إذا افطر لا تكون ذمته مشغولة إذا أطعم عن كل يوم مسكيناً.

واستدل أصحاب القول الثالث القائلون باستواء الأمرين بما ثبت من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم –    عن الصيام في السفر فقال: «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر».

وجه الاستدلال: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –    خيره بين الأمرين فدل على استوائهما.

ويمكن أن يناقش وجه الاستدلال بأن هذا التخيير إنما هو عند عدم وجود المشقة والعذر الظاهر المبيح للفطر أما إذا تحققت المشقة فالفطر أفضل.

الترجيح:

ولعل الراجح -والله تعالى أعلم- هو القول الأول القائل بأن الفطر أفضل لأنه الأيسر للمسن حال تحقق المشقة نظراً لقواعد الشريعة العامة ومقاصدها في التيسير ورفع الحرج وإذا كانت المشقة يتحملها المسن ولا تضره فالصيام في حقه أفضل لأدلة القول الثاني.

المطلب الرابع : مباشرة المسن لزوجته :

المقصود بمباشرة المسن لزوجته هنا مباشرته لها باللمس والضم والتقبيل ونحو ذلك من المباشرة فيما دون الفرج، ودون أن تحرك شهوته فتؤدي إلى الإنزال، كما أن المراد بالمسن هنا المسن الذي يملك إربه ولا يخشى على نفسه الوقوع في الجماع بسبب المباشرة، وأما المباشرة في الفرج، أو المباشرة الفاحشة التي تؤدي إلى الإنزال أو الوقوع في الجماع، فلا فرق فيها بين المسن والشاب فلا يدخل في موضوعنا هنا.

فما حكم مباشرة المسن لزوجته على ما ذُكر، وما حكم تقبيله لها، وما أثرهما على صومه؟

اختلف أهل العلم في المذاهب الأربعة في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا بأس بمباشرة المسن لزوجته وتقبيله لها، وإلى هذا ذهب الحنفية، والشافعية مع قولهم «الأولى تركها»، وهو قول الحنابلة على المذهب، وهو قول ابن عباس، ومروي عن ابن عمر رضي الله عنهم.

القول الثاني: يكره للمسن مباشرة زوجته وتقبيلها، وإلى هذا ذهب المالكية، والحنابلة في رواية.@107118

الأدلـة:

استدل أصحاب القول الأول القائلون بالإباحة بالأدلة الآتية:

1-               ما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان النبي – صلى الله عليه وسلم –   يُقبِّل ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه».

وجه الاستدلال: أن النبي – صلى الله عليه وسلم –   كان يُقبِّل لماَّ كان يملك إربه ويسيطر على نفسه، والشيخ الكبير في معناه لقلة شهوته.

2-               حديث أبي هريرة – رضي الله عنه –   أن رجلاً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم –   عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، وإذا الذي نهاه شاب.

3-               ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كُنَّا عند النبي – صلى الله عليه وسلم –  ، فجاء شاب فقال: يا رسول الله، أُقبِّل وأنا صائم؟ قال: «لا»فجاء شيخ فقال: أقبل وأنا صائم؟ قال: «نعم» قال: فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  : «قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض، إن الشيخ يملك نفسه».

وجه الاستدلال من الحديثين: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –   رخص للمسن بالقُبلة والمباشرة، فدل على أنه لا بأس بهما بالنسبة له.

ونوقش هذا الاستدلال بأن الحديثين ضعيفان.

ويجاب عن هذه المناقشة بأن الحديثين صالحان للاحتجاج بهما كما قرره بعض أهل العلم.

4-               أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما سئل عن القبلة للصائم، فأرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب.

5-               أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أبا شر امرأتي وأنا صائم؟ فقال: لا، ثم جاءه آخر فقال أبا شر امرأتي وأنا صائم؟ قال: نعم، فقيل له يا أبا عبد الرحمن قلت لهذا نعم، وقلت لهذا لا؟ فقال: إن هذا شيخ وهذا شاب.

وجه الاستدلال: أن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم رأيا إباحة القبلة والمباشرة للشيخ، فدل على أنه لا بأس بهما بالنسبة للمسن.

6-               أن المسن الذي ضعفت شهوته يأمن على نفسه من الوقوع فيما ينقض الصوم فلا بأس بقبلته لزوجته وهو صائم

7-               أن مباشرة المسن في هذه الحالة مباشرة لغير شهوة، فأشبهت لمس اليد لحاجة، فلا بأس بها.

واستدل أصحاب القول الثاني القائلون بكراهية المباشرة والقبلة للمسن الصائم بالأدلة الآتية:

1-               ما روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –   أنه قال: «رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم –   في المنام، فرأيته لا ينظرني، فقلت: يا رسول الله ما شأني، فالتفت إليّ فقال: «ألست المقبل وأنت الصائم؟»فو الذي نفسي بيده لا أقبل وأنا صائم امرأة ما بقيت.

وجه الاستدلال من الأثر أن عمر – رضي الله عنه –   قال لا أقبل وأنا صائم، فدل على كراهيته.

ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

الأول: أن سند الأثر ضعيف ولا تقوم به الحجة، وهو مع ضعفه قد خالف ما هو أوثق ثبوتاً عن أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه –  

الثاني: أنه لا دلالة في الأثر، لأنه حكاية عن المنام، والأحكام لا تؤخذ من المنامات وقد روي عن عمر – رضي الله عنه –   في اليقظة ما يخالف هذا، وهو أصح سنداً من هذه الرواية، وهو قوله: «هششت فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبلت، وأنا صائم، قال:«أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم»

2-               أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينهى عن القبلة للصائم.

3-               ما روي عن ابن مسعود – رضي الله عنه –   أنه قال في رجل يقبل وهو صائم: «يقضي يوماً مكانه».

وقد ذكر هذان الأثران في معرض الاستدلال للقائلين بالكراهية، وهما يقتضيان التحريم، ولكن يناقش أثر ابن عمر – رضي الله عنه –   بأنه قد روي عنه خلافه كما سبق ذكره، وأثر ابن مسعود – رضي الله عنه –  نوقش من وجهين:

الأول: أنه قد روي عن ابن مسعود – رضي الله عنه –   أنه ذهب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يسألها عن حكم القبلة للصائم، فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم –  كان يقبل وهو      صائم وكان أملككم لأربه. وهذا يدل على أنه لم يكن عنده في ذلك شيء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  حتى أخبرته عائشة رضي الله عنها بذلك، ويحتمل أن يكون هذا آخر الأمرين عن ابن مسعود – رضي الله عنه –  . فلا يصح إذاً الاستدلال بأثر بن مسعود – رضي الله عنه –  إما لعدم ثبوته وإما لتغير رأيه.

الثاني: أن ما روي عن ابن مسعود – رضي الله عنه – مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم – ، ولا حجة في قول غيره – صلى الله عليه وسلم – في مخالفته، وهو كذلك مخالف لغيره من الصحابة رضي الله عنهم، وليس قوله حجة على غيره.

4-               أن القبلة قد تؤدي إلى ما هو محرم للصائم وهو الجماع والإنزال فيفسد صومه فتكره لذلك.

ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال بأنه منتف في حق المسن الذي ضعفت شهوته.

أن الصوم عبادة تمنع الوطء، فاستوى في القبلة فيها من تحرك شهوته وغيره كالإحرام .

ويمكن أن يناقش بعدم التسليم، لوجود الفارق، وذلك لأن النهي عن الجماع ودواعيه في الإحرام مقصود لذاته، أما القبلة بالنسبة للصائم عند من يقول بالمنع لئلا تكون ذريعة إلى غيرها.

الترجيح:

ولعل الراجح – والله تعالى أعلم – هو القول بعدم كراهية القبلة والمباشرة بالنسبة للمسن الذي ضعفت شهوته لما يلي:

  1. 1     للإجماع بين أهل العلم أن القبلة بالنسبة للصائم لا تكره لذاتها، وإنما خشية أن تؤدي إلى ما يدعو إليه من الجماع والإنزال، قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: «وقد أجمع العلماء على أن من كره القبلة لم يكرهها لنفسها، وإنما كرهها خشية ما تحمل إليه من الإنزال…». وهذه العلة منتفية بالنسبة للمسن في هذه الحالة.
  2. 2     لقوة أدلة هذا القول، حيث إن لـه دليلاً من السنة الصحيحة وآثاراً مشهورة عن الصحابة رضي الله عنهم، ومن المعقول.
  3. 3     لضعف أدلة القول المخالف وورود المناقشة المؤثرة عليها.

بقلم الشيخ: سعد بن عبد العزيز الحقباني

 

المصدر : الملتقى  الفقهى

مشاركة

بيانات الاتصال

اتصل بنا

97333521334+

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لـ المدينة الرقمية لكبار السن في الدول العربية© 2022